عقبات عديدة:
هل يستطيع رئيسي تفعيل دعوته للحوار الإقليمي؟

عقبات عديدة:

هل يستطيع رئيسي تفعيل دعوته للحوار الإقليمي؟



حرص الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي، في الكلمة التي ألقاها بعد مراسم أدائه اليمين الدستورية في مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، في 5 أغسطس الجاري، على تأكيد دعمه لما أطلق عليه “الحوار الداخلي الإقليمي” وتقليص حدة التوتر مع دول الجوار. وفي الواقع، فإن ذلك لا يعبر عن توجه إيراني جديد، حيث أن إيران دائماً ما تتبنى دعوة الحوار الإقليمي، لكن دون أن يكون لها مقومات على الأرض تستطيع من خلالها ترجمتها إلى خطوات إجرائية، لاسيما أن الخلافات مع بعض دول المنطقة ليست ثانوية ولا يمكن تسويتها بسهولة.

وربما يمكن القول إن الضغوط القوية التي تتعرض لها إيران على الساحتين الإقليمية والدولية في المرحلة الحالية كانت أحد المتغيرات الأساسية التي دفعت رئيسي إلى توجيه هذه الرسائل الإيجابية إلى دول المنطقة والقوى الدولية المعنية بالأزمات الإقليمية المختلفة، حيث تعثرت المفاوضات التي تجري في فيينا حول الاتفاق النووي، وتصاعدت التحذيرات الأمريكية من “نفاد الوقت” دون التوصل إلى صفقة جديدة، وتفاقمت حدة التصعيد مع إسرائيل في المنطقة، في ظل تحرك الأخيرة لاحتواء تهديدات النفوذ الإقليمي الإيراني في بعض الدول، لاسيما سوريا، على أمنها, وسعى إيران إلى رفع كُلفة العمليات التي تقوم بها إسرائيل في هذا الصدد.

اعتبارات مختلفة:

هنا تكمن المفارقة. إذ أن المتغيرات التي دفعت رئيسي إلى تبني تلك الدعوة هى نفسها المتغيرات التي ستفرض في النهاية عقبات عديدة أمام ترجمتها إلى خطوات إجرائية على الأرض، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- موقع رئيسي: ربما يمكن القول إن قدرة رئيسي على تنفيذ هذه المبادرة لها حدود على الأرض، يفرضها موقعه في توازنات القوى داخل النظام الإيراني. فرغم أن رئيسي قريب من المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، فضلاً عن أنه يؤسس قنوات اتصال مباشرة، ويبدو أنها قوية، مع الحرس الثوري، فإن ذلك لا ينفي أن اتجاهه إلى محاولة تطبيق تلك المبادرة سوف يعتمد في المقام الأول على مدى قبول المؤسسات الأخرى النافذة في النظام لذلك، وفي مقدمتها مؤسسة الإرشاد والحرس الثوري، وهو ما لا توجد مؤشرات حالية توحي بإمكانية حدوث ذلك.

2- رسائل متناقضة: كان لافتاً في الخطاب الذي تبناه رئيسي أنه تضمن رسائل متناقضة. ففي الوقت الذي دعا فيه إلى “الحوار الداخلي الإقليمي” في إشارة إلى ضرورة إخراج القوى الأجنبية من المنطقة، فإنه أصر على أن إيران لن تتراجع عن دورها الإقليمي. وكان قد أشار إلى هذا الملف تحديداً في أول مؤتمر صحفي عقده بعد إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية الإيرانية، في 21 يونيو الماضي، حيث قال أن “الدور الإقليمي خارج نطاق التفاوض”، في رده على الدعوات الأمريكية والغربية لتوسيع نطاق المفاوضات التي أجريت ستة جولات منها في فيينا، لتشمل، إلى جانب الاتفاق النووي، الدور الإقليمي وبرنامج الصواريخ الباليستية.

ومن دون شك، فإن هذا التناقض يضع عقبات أساسية أمام أى حوار إقليمي مفترض بين إيران ودول المنطقة، لاسيما أن أحد متطلبات هذا الحوار سوف يكون توقف إيران عن التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة، وهو أمر دائماً ما تحاول إيران الالتفاف عليه عبر الترويج لمزاعم بأنها لا تتدخل في الشئون الداخلية، وإنما تسعى إلى تطبيق مبدأ ما يسمى بـ”نصرة المستضعفين”، رغم أن هذا المبدأ تحديداً يمثل أحد المحاور الأساسية للتدخلات الإيرانية المستمرة في الشئون الداخلية.

3- دور “الباسدران”: لا يبدو أن الحرس الثوري سوف يتجاوب مع مثل هذا التوجه، لأسباب عديدة، أهمها أن النفوذ الأكبر للحرس يكمن في الدور الذي يقوم به على الساحة الخارجية. وبمعنى آخر، فإن العمليات الخارجية التي يقوم بها “الباسدران” هى التي تُؤمِّن له النفوذ في الداخل. ومن هنا، كان لافتاً أن الحرس سارع إلى تعيين خليفة لقائد “فيلق القدس” قاسم سليماني، الذي قتل في عملية عسكرية شنتها الولايات المتحدة الأمريكية في 3 يناير 2020، وهو إسماعيل قاآني. ورغم أن إيران لم تثبت أنها تمكنت بهذه الخطوة من ملء الفراغ الذي نتج عن غياب سليماني عن المشهد الإقليمي، فإنها ما زالت مُصِرَّة على عدم التراجع عن مواصلة دعمها وتنسيقها مع الميليشيات والقوى الموالية لها في دول الأزمات، وهو ما يبدو جلياً، في المرحلة الحالية، في العراق تحديداً، حيث تدير عملية التصعيد العسكري ضد المصالح الأمريكية عبر الميليشيات الموالية لها، في إطار سعيها إلى ممارسة مستوى أكبر من الضغوط على إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للإسراع في تنفيذ الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق، فضلاً عن توجيه رسالة اعتراض على التفاهمات الأخيرة التي توصلت إليها بغداد وواشنطن خلال انعقاد الجولة الرابعة من الحوار الاستراتيجي الأمريكي- العراقي في واشنطن في 23 يوليو الفائت، والتي قضت باستمرار قيام القوات الأمريكية بأداء مهام استشارية ولوجيستية داخل العراق خلال المرحلة القادمة.

4- مسارات فيينا: لم تصل المفاوضات التي تجري في فيينا بين إيران ومجموعة “4+1” بمشاركة غير مباشرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، إلى تسوية بعد. إذ عقدت ستة جولات حتى 20 يونيو الماضي، دون أن تتمكن القوى المشاركة من إحراز تقدم فيما يتعلق بتقليص حدة الخلافات العالقة بين واشنطن وطهران. ورغم أن ثمة مؤشرات عديدة توحي بإمكانية انعقاد الجولة السابعة من المفاوضات في سبتمبر القادم، بعد الانتهاء من تشكيل الحكومة الجديدة وتعيين وزير الخارجية وإعادة تشكيل فريق التفاوض النووي، فإن ذلك لا ينفي أن هناك عقبات لا تبدو هينة ما زالت تحول دون التوصل إلى حلول وسط لتلك الخلافات.

وهنا، فإن الارتدادات المحتملة لأى مسار قد تتجه إليه المفاوضات في فيينا سوف تكون إقليمية بالأساس، لاسيما في ظل الترابط الواضح بين الملفات المختلفة، وتقاطع مصالح القوى الإقليمية والدولية المعنية بها. وربما تكون العراق وسوريا ولبنان ساحات أساسية لهذه الارتدادات، على نحو بدأت مقدماته في الظهور خلال المرحلة الحالية، لاسيما في ظل التصعيد ضد المصالح الأمريكية في العراق، فضلاً عن الضربات الأمريكية والإسرائيلية على مواقع تابعة لإيران والميليشيات الموالية لها في الدولتين، إلى جانب التصعيد الأخير بين إسرائيل وحزب الله على الحدود الإسرائيلية- اللبنانية.

على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن تحركات إيران على الأرض تبقى هى المتغير الأساسي لاختبار مدى حدوث تغير في السياسة الخارجية الإيرانية باتجاه العمل على إجراء حوار وتقليص حدة التوتر مع دول المنطقة، وهو ما سوف تتبلور معالمه قريباً في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها الملفات الإقليمية المختلفة.